إدارة الشئون الفنية
أمراض القلوب

أمراض القلوب

10 يناير 2020

خطبة الجمعة المذاعة والموزعة

بتاريخ 15 من جمادى الأولى 1441هـ - الموافق 10 / 1 / 2020م

أَمْرَاضُ الْقُلُوبِ

إِنَّ الحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ( [آل عمران:102]، )يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا( [النساء:1]، )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا( [الأحزاب:70-71].

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الحَدِيثِ كَلَامُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

إِخْوَةَ الإِيمَانِ:

لَقَدْ خَلَقَ اللهُ بَنِي آدَمَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَأَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِنِعَمٍ عَظِيمَةٍ وَآلَاءَ عَمِيمَةٍ، مِنْهَا: السَّمْعُ وَالْأَبْصَارُ وَالْأَفْئِدَةُ؛ لِيَعْقِلُوا بِهَا مَقَاصِدَ الدِّينِ الْعَظِيمِ، وَيَتَعَبَّدُوا اللهَ بِشَرْعِهِ الْقَوِيمِ؛ قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: )وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ   ( [النحل:78]، وَالْقَلْبُ هُوَ مَحَلُّ الِانْتِفَاعِ بِالتَّذْكِرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ؛ قَالَ تَعَالَى: )إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ  ( [ق:37]، قَالَ الشَّيْخُ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ:( أَيْ: قَلْبٌ عَظِيمٌ حَيٌّ ذَكِيٌّ زَكِيٌّ، فَهَذَا إِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ آيَاتِ اللهِ تَذَكَّرَ بِهَا وَانْتَفَعَ فَارْتَفَعَ).

وَقَدْ جَعَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لِهَذَا الْقَلْبِ أَهَمِّيَّةً كَبِيرَةً فِي سَعَادَةِ الْمَرْءِ أَوْ شَقَائِهِ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، فَالْجَوَارِحُ تَابِعَةٌ لَهُ فِي صَلَاحِ أَعْمَالِهَا، أَوْ فَسَادِهَا، وَلِذَا يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: »أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ « [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا].

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ: (الْقَلْبُ هُوَ الْأَصْلُ، فَإِذَا كَانَ فِيهِ مَعْرِفَةٌ وَإِرَادَةٌ سَرَى ذَلِكَ إِلَى الْبَدَنِ بِالضَّرُورَةِ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَخَلَّفَ الْبَدَنُ عَمَّا يُرِيدُهُ الْقَلْبُ).

وَإِنَّ مِنْ أَوَّلِ مَا أَمَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَطْهِيرَ الْقَلْبِ وَتَزْكِيَتَهُ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: ) يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ   ( [المدثر:1-4] قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: (جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ السَّلَفِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالثِّيَابِ هَا هُنَا الْقَلْبُ).

عِبَادَ اللهِ:

وَالْقَلْبُ قَدْ تُصِيبُهُ جُمْلَةٌ مِنَ الْأَمْرَاضِ الْخَطِيرَةِ الَّتِي يَعُودُ مَرْجِعُهَا بِالْجُمْلَةِ إِلَى مَرَضَيْنِ خَطِيرَيْنِ هُمَا: مَرَضُ الشَّهَوَاتِ وَمَرَضُ الشُّبُهَاتِ؛ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا [أَيْ: مُتَغَيِّـرًا سَوَادُهُ] كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا [أَيْ: مَائِلًا] لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ].

وَمِنْ أَخْطَرِ تِلْكَ الْأَمْرَاضِ الَّتِي قَدْ تُصِيبُ الْقَلْبَ وَأَشَدِّهَا فَتْـكًا فِي دِينِ الْمَرْءِ وَأَخْلَاقِهِ (دَاءُ الشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ وَالرِّيَاءِ) فَمَا دَخَلَتْ هَذِهِ فِي قَلْبٍ إِلَّا بَاءَ صَاحِبُهُ بِالْخُسْرَانِ، وَأَوْرَدَتْهُ مَوَارِدَ الذِّلَّةِ وَالْهَوَانِ؛ قَالَ تَعَالَى: )فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ  ( [البقرة:10]، وَمِنَ الْأَمْرَاضِ الْخَطِيرَةِ الَّتِي إِنْ أَصَابَتِ الْقَلْبَ مَزَّقَتْهُ، وَزَلْزَلَتْ ثَبَاتَهُ وَأَرْهَقَتْهُ، مَرَضُ اتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ وَالِافْتِتَانِ بِهَا؛ قَالَ تَعَالَى: )اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ  ( [الأنبياء:1-3]، وَقَالَ تَعَالَى: ) فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا( [الأحزاب:32].

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ قَلْبُهُ وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ: )كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ( «  [رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ]. قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ رَحِمَهُ اللهُ:

رَأَيْتُ الذُّنُوبَ تُمِيتُ الْقُلُوبَ     وَقَدْ يُورِثُ الذُّلَّ  إِدْمَانُهَا

وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ  الْقُلُوبِ     وَخَيْرٌ لِنَفْسِكَ عِصْيَانُـهَا

عِبَادَ اللهِ:

وَمِنَ الْأَمْرَاضِ الَّتِي تُصِيبُ الْقُلُوبَ: مَرَضُ الْغِلِّ وَمَرَضُ سُوءِ الظَّنِّ، وَمِنْهُمَا تَتَوَلَّدُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ وَالتَّحَاسُدُ وَالْخِيَانَةُ بَيْنَ النَّاسِ، وَقَدْ أَثْنَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الَّذِينَ يُنَقُّونَ قُلُوبَهُمْ مِنَ الْغِلِّ وَالْحَسَدِ؛ فَقَالَ تَعَالَى: )وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ  ( [الحشر:10].

وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ »ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ [مِنَ الْإِغْلَالِ وَهُوَ الْخِيَانَةُ] عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُؤْمِنٍ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَالنَّصِيحَةُ لِوُلَاةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ؛ فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ « [رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ].

وَدَاءُ الْغَفْلَةِ إِذَا أَصَابَ الْقَلْبَ أَدْمَاهُ وَإِلَى مَوَارِدِ الْهَلَكَةِ أَرْدَاهُ؛ قَالَ تَعَالَى: )وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا  ( [الكهف:28]. وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، أَنَّهُمَا سَمِعَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عَلَى أَعْوَادِ مِنْبَرِهِ: «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الْجُمُعَاتِ، أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ]. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: (فَمَنْ كَانَتِ الْغَفْلَةُ أَغْلَبَ أَوْقَاتِهِ كَانَ الصَّدَأُ مُتَرَاكِباً عَلَى قَلْبِهِ).

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:

وَلِأَمْرَاضِ الْقُلُوبِ أَسْبَابٌ، مَنِ اتَّقَاهَا فَقَدْ فَازَ بِالسَّلَامَةِ وَالصَّوَابِ، وَمَنْ وَقَعَ فِيهَا فَقَدْ عَرَّضَ نَفْسَهُ وَدِينَهُ لِلْخَطَرِ وَالِاضْطِرَابِ، وَمِنْ تِلْكَ الْأَسْبَابِ: اتِّبَاعُ الْهَوَى، وَالزَّيْغُ عَنِ الْحَقِّ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ؛ قَالَ تَعَالَى: ) فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ   ( [الصف:5] ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: ) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ( [الجاثية:23]. وَكَذَلِكَ الْإِسْرَافُ فِي الْمُبَاحَاتِ وَالِانْهِمَاكُ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا وَإِيثَارُهَا عَلَى الْآخِرَةِ أَحَدُ أَسْبَابِ اعْتِلَالِ الْقُلُوبِ وَسَقَمِهَا، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: أَنَّ مِنْ مُفْسِدَاتِ الْقَلْبِ كَثْرَةَ النَّوْمِ؛ قَالَ تَعَالَى: )وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ  ( [الأعراف:31]).

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ، أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الخطبة الثانية

الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَأُوصِيكُمْ- عِبَادَ اللهِ - وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ، فَهِيَ وَصِيَّتُهُ لِلْأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، فَمَنِ اتَّقَاهُ وَقَاهُ، وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ كَفَاهُ.

إِخْوَةَ الإِيمَانِ:

لَقَدْ ذَكَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ مِنْ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَمِنْهَا: الْقَلْبُ الْمَيِّتُ الَّذِي طَبَعَ اللهُ عَلَيْهِ وَهُوَ قَلْبُ الْكَافِرِ، قَالَ تَعَالَى فِي قُلُوبِ الْكَافِرِينَ: ) بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا  ( [النساء:155] ، وَمِنْهَا الْقَلْبُ السَّقِيمُ الَّذِي أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْلِهِ: ) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ   ( [النور:48-50] وَثَالِثُ تِلْكَ الْقُلُوبِ الْقَلْبُ السَّلِيمُ الْمُعَافَى مِنْ كُلِّ دَاءٍ وَفِتْنَةٍ وَبَلَاءٍ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: )يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ  ( [الشعراء:88- 89].

إِخْوَةَ الإِسْلَامِ:

وَالسَّلَامَةُ مِنْ أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ لَهَا أَسْبَابٌ يَنْبَغِي عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَبْذُلَهَا، وَيَسْعَى فِي تَحْصِيلِهَا وَالْوُصُولِ لَهَا، وَمِنْهَا: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ( [يونس:57]. وَمِنْهَا ذِكْرُ اللهِ، قَالَ تَعَالَى: )أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ   ( [الرعد:28].

وَمِنْهَا دُعَاءُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بِثَبَاتِ الْقَلْبِ وَسَلَامَتِهِ، قَالَ تَعَالَى: )رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ  ( [آل عمران:8].

وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا ؟ قَالَ: «نَعَمْ. إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ» [رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ].

فَاحْرِصُوا يَا عِبَادَ اللهِ، عَلَى تَنْقِيَةِ قُلُوبِكُمْ، وَمُعَالَجَةِ مَا قَدْ يُصِيبُهَا مِنْ أَمْرَاضٍ؛ فَإِنَّهُ أَحْفَظُ لِدِينِكُمْ وَأَتْقَى لِرَبِّكُمْ وَأَبْقَى لِآخِرَتِكُمْ.

اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّدٍ أَزْكَى الْبَرِيَّةِ أَجْمَعِينَ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَانْصُرْ عِبَادَكَ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَاحْفَظْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللَّهُمَّ احْفَظْ أَمِيرَ بِلَادِنَا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ وَاكْلَأْهُمَا بِرِعَايَتِكَ، وَأَدِمْ عَلَيْهِمَا الصِّحَّةَ وَالْعَافِيَةَ، وَهَيِّئْ لَهُمَا الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ، وَوَفِّقْهُمَا لِهُدَاكَ، وَاجْعَلْ أَعْمَالَهُمَا فِي رِضَاكَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، اللَّهُمَّ ادْفَعْ عَنَّا الْغَلَا وَالْوَبَا وَالرِّبَا وَالزِّنَا وَالزَّلَازِلَ وَالْمِحَنَ وَسُوءَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، عَنْ بِلَادِنَا وَعَنْ سَائِرِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ، وَاغْفِرِ اللَّهُمَّ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

لجنة إعداد الخطبة النموذجية لصلاة الجمعة

الرقعي - قطاع المساجد - مبنى تدريب الأئمة والمؤذنين - الدور الثاني